فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمعنى: منكم مستقر يعني في الأرحام.
ومن فتح القاف جعله مكانًا فالمستقر نفسه المقر فيكون المعنى لكم مقر.
وأما المستودع فهو مثل أودع فيجوز أن يكون اسمًا للإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه.
فمن قرأ فمستقر بفتح القاف جعل المستودع مكانًا، والمعنى: فلكم مكان استقرار ومكان استيداع ومن كسر القاف جعل المعنى منكم مستقر ومنكم مستودع يعني منكم من استقر ومنكم من استودع والفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع، لأن المستقر من القرار والمستودع معرض لأن يرد.
ولهذا اختلفت عبارات المفسرين في معنى هذين اللفظين فروي عن ابن عباس أنه قال المستقر في أرحام الأمهات والمستودع في أصلاب الآباء ثم قرأ {ونقر في الأرحام ما نشاء} ويؤيد هذا القول أن النطفة لا تبقى في صلب الأب زمانًا طويلًا والجنين يبقى في بطن الأم زمانًا طويلًا، ولما كان المكث في بطن الأم أكثر من صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع على الصلب.
وروي عنه أنه قال: بالعكس يعني أن المستقر صلب الأب والمستودع رحم الأم.
ووجه هذا القول، أن النطفة حصلت في صلب الأب قبل رحم الأم فوجب حمل المستقر على الصلب والمستودع على الرحم.
وقال ابن مسعود: المستقر في الرحم إلى أن يولد والمستودع في القبر إلى أن يبعث وقال مجاهد: المستقر على ظهر الأرض في الدنيا لقوله: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} والمستودع عند الله في الآخرة.
وقال الحسن: المستقر في القبر والمستودع في الدنيا وكان يقول يا ابن آدم أنت مستودع في أهلك إلى أن تلحق بصاحبك يعني القبر وقيل المستودع في القبر والمستقر إما في الجنة والنار، لأن المقام فيهما يقتضي الخلود والتأبيد. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام أو في القبر أو موضع استقرار واستيداع فيما ذكر، وجعل الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فأشبهت الوديعة كأن الرجل أودعها ما كان عنده، وجعل وجه الأرض مستقرًا وبطنها مستودعًا لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني، وقيل: التعبير عن كونهم في الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرهم الطبيعي كما أن التعبير عن كونهم في الأرحام أو في القبر بالاستيداع لما أن كلًا منهما ليس بمقرهم الطبيعي.
وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المستقر الرحم والمستودع الأصلاب، وجاء في رواية أن (حبرتيما) كتب إليه يسأله رضي الله تعالى عنه عن ذلك فأجابه بما ذكر.
ويؤيد تفسير المستقر بالرحم قوله تعالى: {وَنُقِرُّ في الأرحام مَا نَشَاء} [الحج: 5] وأما تفسير المستودع بالأصلاب فقال شيخ الإسلام: إنه ليس بواضح وليس كما قال، فقد ذكر الإمام بعد أن فرق بين المستقر والمستودع بأن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع، ومما يدل على قوة هذا القول يعني المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانًا طويلًا والجنين يبقى زمانًا طويلًا، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى.
ويلزم ذلك أن حمل الاستيداع على المكث في الصلب أولى.
وأنا أقول: لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم يوم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم وكان ما كان ردهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله تعالى ذلك، وقد أطلق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اسم الوديعة على ما في الصلب صريحًا.
فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أتزوجت؟ قلت: لا وما ذلك في نفسي اليوم قال: إن كان في صلبك وديعة فستخرج.
وروي تفسير المستودع بالدنيا والمستقر بالقبر عن الحسن وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وينشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا وديعة ** ولابد يومًا أن ترد الودائع

وقال سليمان بن زيد العدوي في هذا المعنى:
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا ** فالناس مفجوع به ومفجع

مستودع أو مستقر مدخلا ** فالمستقر يزوره المستودع

وعن أبي مسلم الأصفهاني أن المستقر الذكر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه والمستودع الأنثى لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة فكأنه قيل: وهو الذي خلقكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {فمستقر} بكسر القاف وهو حينئذ اسم فاعل بمعنى قار ومستودع اسم مفعول والمراد فمنكم مستقر ومنكم مستودع.
ووجه كون الأول: معلومًا والثاني: مجهولًا أن الاستقرار هنا بخلاف الاستيداع والمتعاطفان على القراءة الأولى مصدران أو اسما مكان ولا يجوز أن يكون الأول اسم مفعول لأن استقر لا يتعدى وكذا الثاني ليكون كالأول. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فمستقرّ} الفاء للتّفريع عن {أنشأكم}، وهو تفريع المشتَمَل عليه المقارن على المشتمِل.
وقرأه الجمهور {مستقَر} بفتح القاف وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وروح عن يعقوب بكسر القاف.
فعلى قراءة فتح القاف يكون مصدرًا ميميًا، و{مستَودَع} كذلك، ورفعهما على أنّه مبتدأ حُذف خبره، تقديره: لكم أو منكم، أو على أنّه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فأنتم مُستقرّ ومستودَع.
والوصف بالمصدر للمبالغة في الحاصل به، أي فتفرّع عن إنشائكم استقرار واستيداع، أي لكم.
وعلى قراءة كسر القاف يكون المستقرّ اسم فاعل.
والمستودَع اسم مفعول من استودعَه بمعنى أودعه، أي فمستقِرّ منكم أقررناه فهو مستقرّ، ومستودَع منكم ودّعناه فهو مستودَع.
والاستقرار هو القرار، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد مثل استجاب.
يقال: استقرّ في المكان بمعنى قرّ.
وتقدّم عند قوله تعالى: {لكلّ نبأ مستقرّ} في هذه السورة [67].
والاستيداع: طلب التّرك، وأصله مشتقّ من الوَدْع، وهو التّرك على أن يُسترجع المستوْدَعُ.
يقال: استودعه مالًا إذا جعله عنده وديعة، فالاستيداع مؤذن بوضع موقّت، والاستقرار مؤذن بوضع دائم أو طويل.
وقد اختلف المفسّرون في المراد بالاستقرار والاستيداع في هذه الآية مع اتّفاقهم على أنّهما متقابلان.
فعَن ابن مسعود: المستقَرّ الكون فوق الأرض، والمستودَع الكون في القبْر.
وعلى هذا الوجه يكون الكلام تنبيهًا لهم بأنّ حياة النّاس في الدّنيا يعقبها الوضع في القبور وأنّ ذلك الوضع استيداع موقّت إلى البعث الّذي هو الحياة الأولى ردًّا على الّذين أنكروا البعث.
وعن ابن عبّاس: المستقرّ في الرّحم والمستودَع في صلب الرجل، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضًا، وقاله مجاهد والضحْاك وعطاء وإبراهيم النخعي، وفسّر به الزجّاج.
قال الفخر: وممّا يدلّ على قوّة هذا القول أنّ النّطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانًا طويلًا والجنين يبقى في رَحم الأمّ زمانًا طويلًا.
وعن غير هؤلاء تفسيرات أخرى لا يثلج لها الصّدر أعرضنا عن التّطويل بها.
وقال الطّبري إنّ الله لم يخصّص معنى دون غيره، ولا شكّ أنّ من بني آدم مستقرًّا في الرّحم ومستودَعًا في الصلب، ومنهم من هو مستقرّ على ظهر الأرض أو بطنها ومستودَع في أصلاب الرّجال، ومنهم مستقرّ في القبر مستودَع على ظهر الأرض، فكلّ مستقِرّ أو مستودع بمعنى من هذه المعاني داخل في عموم قوله: {فمستقَرّ ومستودع}. اهـ.
وقال ابن عاشور:
وقال ابن عطيّة: الّذي يقتضيه النّظر أنّ ابن آدم هو مستودَع في ظهر أبيه وليس بمستقرّ فيه لأنّه ينتقل لا محالة ثمّ ينتقل إلى الرّحم ثمّ ينتقل إلى الدّنيا ثمّ ينتقل إلى القبر ثمّ ينتقل إلى الحشر ثمّ ينتقل إلى الجنّة أو النّار.
وهو في كلّ رتبة بين هذين الظرفين مستقِرّ بالإضافة إلى الّتي قبلها ومستودَع بالإضافة إلى الّتي بعدها.اهـ.
والأظهر أن لا يقيّد الاستيداع بالقبور بل هو استيداع من وقت الإنشاء، لأنّ المقصود التّذكير بالحياة الثّانية، ولأنّ الأظهر أنّ الواو ليست للتّقسيم بل الأحسن أن تكون للجمع، أي أنشأكم فشأنكم استقرار واستيداع فأنتم في حال استقراركم في الأرض ودائع فيها ومرجعكم إلى خالقكم كما ترجع الوديعة إلى مودِعها.
وإيثار التّعبير بهذين المصدرين ما كان إلاّ لإرادة توفير هذه الجملة.
وعلى قراءة كسر القاف هو اسم فاعل.
{ومستودع} اسم مفعول، والمعنى هو هو. اهـ.

.قال الفخر:

المراد من هذا التفصيل أنه بين هذه الدلائل على وجه الفصل للبعض عن البعض.
ألا ترى أنه تعالى تمسك أولًا بتكوين النبات والشجر من الحب والنوى، ثم ذكر بعده التمسك بالدلائل الفلكية من ثلاثة وجوه، ثم ذكر بعده التمسك بأحوال تكوين الإنسان فقد ميز تعالى بعض هذه الدلائل عن بعض، وفصل بعضها عن بعض لقوم يفقهون، وفيه أبحاث: الأول: قوله: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} ظاهره مشعر بأنه تعالى قد يفعل الفعل لغرض وحكمة.
وجواب أهل السنة: أن اللام لام العاقبة، أو يكون ذلك محمولًا على التشبيه بحال من يفعل الفعل لغرض.
والثاني: أن هذه الآية تدل على أنه تعالى أراد من جميع الخلق الفقه، والفهم والإيمان.
وما أراد بأحد منهم الكفر.
وهذا قول المعتزلة.
وجواب أهل السنة: أن المراد منه كأنه تعالى يقول: إنما فصلت هذا البيان لمن عرف وفقه وفهم، وهم المؤمنون لا غير.
والثالث: أنه تعالى ختم الآية السابقة، وهي الآية التي استدل فيها بأحوال النجوم بقوله: {يَعْلَمُونَ} وختم آخر هذه الآية بقوله: {يَفْقَهُونَ} والفرق أن إنشاء الإنس من واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرًا، فكان ذكر الفقه هاهنا لأجل أن الفقه يفيد مزيد فطنة وقوة وذكاء وفهم. والله أعلم. اهـ.

.قال الخازن:

{قد فصلنا الآيات} قد بينّا الدلائل الدالة على التوحيد بالبراهين الواضحة والحجج القاطعة {لقوم يفقهون} يعني لقوم يفهمون عن الله آياته ودلائلة الدالة على توحيده لأن الفقه هو الفهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}.
لما كان الاهتداء بالنجوم واضحًا ختمه بقوله: {يعلمون} أي من له أدنى إدراك ينتفع بالنظر في النجوم وفائدتها، ولما كان الإنشاء من نفس واحدة والتصريف في أحوال كثيرة يحتاج إلى فكر وتدقيق نظر ختمه بقوله: {يفقهون} إذ الفقه هو استعمال فطنة ودقة نظر وفكر فناسب ختم كل جملة بما يناسب ما صدّر به الكلام. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} المبينة لتفاصيل خلق البشر ومن جملتها هذه الآية: {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} معاني ذلك، قيل: ذكر مع ذكر النجوم {يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] ومع ذكر إنشاء بني آدم {يَفْقَهُونَ} لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوالهم المختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرًا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقًا له، وهو مبني على أن الفقه أبلغ من العلم، وقيل: هما بمعنى إلا أنه لما أريد فصل كل آية بفاصلة تنبيهًا على استقلال كل منهما بالمقصود من الحجة وكره الفصل بفاصلتين متساويتين لفظًا للتكرار عدل إلى فاصلة مخالفة تحسينًا للنظم (وافتنانًا) في البلاغة.
وذكر ابن المنير وجهًا آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله تعالى ولا يعتبر بمخلوقاته وكانت الآيات المذكورة أولًا خارجة عن أنفس النظار (ومنافية لها) إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقليبهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها فإذا تمهد هذا فجهل الإنسان بنفسه وأحواله وعدم النظر والتفكر فيها أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفى (بطريق التعريض عن أبشع القبيلتين) جهلًا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى فخص به أسوأ الفريقين حالًا و{يَفْقَهُونَ} هاهنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم، وليس من فقه بالضم لأن تلك درجة عالية ومعناه صار فقيهًا.
ثم ذكر أنه إذا قيل: فلان لا يفقه شيئًا كان أذم في العرف من قولك: فلان لا يعلم شيئًا وكأن معنى قولك: لا يفقه شيئًا ليست له أهلية الفهم وإن فهم، وأما قولك: لا يعلم شيئًا فغايته عدم حصول العلم له وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو تعلم.
واستدل على أن التارك للتفكر في نفسه أجهل وأسوأ حالًا من التارك للفكرة في غيره بقوله سبحانه: {وَفِى الأرض ءايات لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21] فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارًا مستأنفًا والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. اهـ.